إشراقة

 

كُنْ كالماء يبحث عن مجرى عندما يجد مجراه الأول مُغْلَقًا

 

  

 

  

 

       يومَ السبت 10/ ذوالقعدة 1427هـ = 2/ مارس 2006م، كنتُ كالعادة بمجلسي بعد صلاة العصر، وكان حولي طلابٌ يحضرون للزيارة العفويّة . كان من بينهم طالبٌ من "بنغلاديش" اسمه "حبيب الله" دَرَسَ عامَيْن مُتَتَالِيَيْن بقسم اللغة العربيّة وآدابها بدارالعلوم/ ديوبند، وكان بجنبه طالبٌ آخرُ من غربيّ ولاية "أترابراديش" قال عنه بعضُ من حَضَرَ المجلسَ من الطلاّب: إنّه قَدَّمَ إلى مكتب شؤون التعليم طلبًا بإجراء إعادة دراسة دفتر أَجْوِبَتِه في الامتحان السنويّ، فيما يتعلّق بكتاب كذا؛ لأنّه يزعم أن القائم بدراسته أوّلاً لم يُقَيِّمْه بشكل دقيق، ولم يعْطِه من العلامات ما يستحقّه حسبَ تقييمه هو لنفسه .

       قلتُ: إنّه تَصَرَّف تصرُّفًا غيرَ لائق؛ لأنّه غيرُ جدير بأيّ طالب أن يُقَدِّم إلى المسؤولين طلبًا بإعادةِ فحصِ دفتر الإجابة في الامتحان؛ فيما كان قد نجح وفاز بعلامات لابأس بها. وإنّما يجوز له ذلك لدى فشله، بحيث مُنِحَ علاماتٍ جَعَلَتْه لاتنجح حتى بالدرجة الثالثة، وهو مُتَأَكِّد أنه أجاب عن الأسئلة بشكل صائب، ويعتقد أنّ القائمَ بدراسة دفتر الإجابة لم يُؤَدِّ مسؤوليتَه بنحو دقيق وعَالَجَه مُسْتَعْجِلاً. إنّ العلامات التي يحظى بها الطالبُ في الامتحان، إذا كانت علاماتِ نجاح ولو بالدرجة الثالثة، فليظنَّها حكمةً من الله ومشيئةً منه؛ فَلْيَرْضَ بها، مُعْتَبـِرًا إيّاها مُؤَشِّرَ خيرٍ وسعادةٍ. وذلك لأن تقديم الطلب بفتح إعادة الفحص، يؤذي الأستاذَ الذي يكون قد دَرَسَ الدفترَ أوّلاً، ولاسيّما إذا لم يجرِ إعادةُ الدراسة من قِبَله هو، وإنّما كُلِّف بذلك أستاذٌ آخر. قلتُ: إنّ التأَذِّيَ إذا مَسَّ القلبَ ودعا المُتَأَذِّي على من سَبَّبَه؛ فإنّه يُقْبَل منه، لكونه مُنْكَسِرَ القلب، وقد قال تعالى في حديث قدسيّ: أنا عند المُنْكَسِرَةِ قلوبُهم. وقد جَرَّبْتُ كثيرًا أنّ الدعاءَ على أحد يُسْتَجَاب أكثرَ من الدعاء له؛ لأنّ الداعيَ عليه لايُقْدِم على الدعاء عليه إلاّ عندما يَتَأَذَّى كثيرًا، فينكسر قلبُه ويتأَلَّمُ ضميرُه؛ فانْتَبـِهوا لذلك أيّها الطُلاّب!.

       وبَادَرَ الطالبُ البنغلاديشيُّ فشَاطَرَني الرأيَ مُؤَيِّدا وقائلاً: سيدي! صحيحٌ ما تقولونه، ولديَّ مثالٌ حيٌّ على ذلك اطّلعتُ عليه خلالَ قراءتي لبعض اليوميّات لبعض المُثَقَّفِين والساسة البارزين في "بنغلاديش".

       عندما انتهى ميعاد حكم السيِّدة "حسينة واجد" الذي دام خمس سنوات في الفترة الماضية، خَلَفَتْه حكومةٌ انتقاليّة لمـــدة ثلاثة شهور، تَوَلَّىٰ رئاستَها قاضي قضاة المحكمـــة العليا ببنغلاديش المُحَالُ إلى المعاش السيِّد "لطيف الرحمن" وهو الذي أجرى الانتخابــات العامّــة التي أسفرت عن نجاح السيِّدة "خالدة ضياء" وتَوَلِّيها مقاليدَ الحكم. وكان "لطيف الرحمن" رجلاً كبيرًا بكثير من الاعتبارات؛ حيث كان على جانب كبير من النزاهة الخلقيّة وإتقان فنّ الإدارة. وقد سَجَّلَ يوميّات حكومته الموقتة التي تَوَلاَّها ثلاثة شهــور، ودَوَّنَ فيها وقائعَ 90 يومًا باللغة البنغاليّة الجميلة، وقد صدرتْ منذ سنوات، و وقَعَتْ إليَّ، فقرأتُها بإمعان واستيعاب؛ لأنَّ أسلوبَها الجذّابَ اضْطَرَّني أن آتي على آخر سطر منها .

       وقد كتب فيها فيما كتب فيما يتعلّق بشخصه ما يدعو للاعتبار؛ حيث قال: كنتُ لدى دراستي طالبًا مُجِدًّا للغاية – ولله الحمد والمنّـــة – وكنتُ مُجَلِّيًا بيـــن زملائي في الدراسة، واتَّفَقَ أني صرتُ في امتحان الكليّة مُصَلِّيًا؛ حيث فاقني طالبٌ أو طالبان بثلاث علامـــات فقط، وكانوا في الواقع أقلَّ منّي اجتهادًا وتمكـــنًّا من الموادّ الدراسيّة المُمْتَحَن فيها، مما جَعَلَني لم أنجح بالـــدرجــــة الثانيـــة. أما الدرجـــة الأولى فالفوز بها كان حدثًا لايتحقّق إلاّ نادرًا؛ فالفـــوزُ بالثانية هو الذي كان يُعْتَبَـــــر فـــوزًا بالأولى، فكان الفائزُ بها يُخْتَار أستاذًا بالكليّـــة. والطلاّبُ الأقلُّ منّي كفاءةً صاروا مُحَاضِرين، فأساتذةً، وظِلْتُ أَنْدُب حَظِّي.

       ثمّ عَنَّ لي أن أختار طريق دراسة الحقوق، فانصرفتُ إليها وتَوَفَّرْتُ عليها، وحصلتُ على شهادتها، ثم صرتُ أُمَارِس الوظيفةَ على أساسها، وظلتُ أنال الترقيةَ، حتى أصبحتُ قاضيَ قضاةٍ بالمحكمة العليا بالبلاد، وعندما أُحِلْتُ إلى المعاش اُخْتِرْتُ قائمًا بأعمال رئيس الحكومة للفترة الانتقاليّة، ووثق بي نُخَبُ البلاد ومُثَقَّفُوها الكبار، وقمتُ بإجراء انتخابات عامّة نزيهة اعترف بنزاهتها جميعُ الناس، ثم تولّتِ الحكمَ السيِّدةُ "خالدة ضياء".

       إنّ كوني مُصَلِّيًا بثلاث علامات فقط، كان قد حَزَّ في نفسي كثيرًا؛ لكنَّ هذا "الشرَّ" أدّى إلى الخير؛ حيث غَيَّرْتُ خطَّ دراستي، وصِرْتُ مُحَافِظَ ميزان العدل والقضاء. ولم أكن لأحظى بالشرف الذي حظِيتُ به لوكنت قد أُحِلْتُ إلى المعاش من عملي كأستاذ في كليّة أو جامعة. إنّ التأمُّلَ في تقدير العزيز العليم وتدبير الحظّ الصاعد يجعلان الإنسان حيرانَ.

*  *  *

       وهذا الموقفُ السامي الذي أشار إليه صاحبُه الحظيّ، لايقفه إلاّ ذوو سعادة، كُتِبَ لهم التألّقُ في سماء الشرف والعُلاَ. أمّا ذوو نفوس صغيرة فإنّهم لايُغَيِّرون الخطَّ، مهما نُبِّهُوا بالإنذار والنور الأحمر، وإنما يُصِرُّون على المضيِّ قُدُمًا في الطريق الذي تكرر فيه اصطدامهم وتورّطهم في الأخطار والحوادث المؤلمة .

       السعيدُ ينتبه بأدنى جرس، وأخفِّ إنذار، والشقيُّ يضع في أذنيه وقرًا، ولايسمع مُنَبِّهَ الخطر ولاصوتَ الإنذار، حتى يُقَابَل بحادث مؤلم، أو يقع في هاوية عميقة، وهنا يرفع رأسه ليرى ماذا وقع؟!.

       وإذا رأينــا الأمرَ بإمعان، وجدنا أنّه يرجع أوّلاً وأخيرًا إلى القضاء والقدر الإلهي؛ فمن وَجَـــدَ عائقًا في الطــــريق أو وَجَدَه مسدودًا، فسلك طريقًا آخـــر، دون أن يجهــــد نفسَـــه في إزالة العائق أو فتح الطريق، علمنا أنه سعيد مَوَفَّــق؛ حيث لم يُضِعِ الـــوقتَ والجهدَ في شيء قد ينفع وقد يضرّ وفي حيلة قد تنجح وقد تُخْفِق. ومن وَجَدْناه يُعَالِج فتحَ الطريق أو إزالةَ الحاجز، ثم وجدنا حيلتَه تُخْفِق، وجهدَه يضيع سدىً، علمنا أنّه شقيٌّ لم يحالفه التوفيقُ وخَذَلَه النصرُ الإلهيّ .

       إنّ اتخاذَ القرار الصائب في الوقت المناسب ودونما تردّد، إنما يأتي من توفيق الله الحكيم؛ فلا أحدٌ في الدنيا يختار الإخفاقَ عن طواعية ورضًا وعن عمد وإرادة منه. وإنّما الشقاءُ المكتوب عليه هو الذي يجرُّ إليه البلاءَ، ويدفعه إلى أن يتلاعب باليأس ويتعامل بالإخفاق .

       اصطناعُ موقفٍ صائبٍ في وقته أولُ خطوة أساسيَّة إلى النجاح؛ فمن وُفِّق لهذا، وُفِّق لجني الثمرات يانعةً، وتحقيق المكاسب وافرةً. ومن حُرِمَ هذا، حُرِمَ النتائجَ، ولم يقدر على تحقيق خير، ومُقَاوَمة شر. ولقياس مدى سعادة أحدٍ لك أن ترى أين يضع خطاه في الطريق، وترى هل خطواتُه الأولى تأتي مستقيمةً مُتَثَبِّتَةً أو تأتي مُتَعَرِّجَةً مُتَخَاذِلَةً.

       أن تكــون كالماء يبحث عن مجرىً آخر عندما يجد مجـــراه الأوّل مُغَلَقًا، خيــــرٌ لك من أن تقف أمام طريقك المُغْلَق المزروع بالموانع؛ فتستنفــد طاقـــاتِك في إزالتهـا، فقـــد تنجـــح وقد تخفـق، وقـــد تنجح فنجاحُك يأتي ناقصًا غيرَ وافٍ، فيكون مُعَادِلاً للإخفاق. كن حُوَّلاً قُلَّبًا، لايَعْدَمُ حيلةً إذا فَشِلتْ حيلةٌ، ولايعجز عن إعمال خُدْعَـــة لطيفة إذا أخفقتْ لديه خدعة. المكتفي بأسلوب واحد للعمل، ومسلك واحد للتحرّك، لايُنْجِز مأثرةً، ولايُخَلِّد مكرمةً، ولايبتني مفخرةً يتباهى بها الجيلُ الذي يودّ أن يتخذه أسوةً.

 

( تحريرًا في الساعة 11 من يوم الأحد: 17/6/ 1429هـ = 22/6/2008م ) .

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رجب 1429هـ = يوليو  2008م ، العـدد : 7  ، السنـة : 32